آة يا زمان - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


آة يا زمان
محروس \ بقعاثا - 10\02\2010
شكا لي ولدي أن المعلم في المدرسة يوجه إليهم ألفاظًا غاية في السوء؛ وذلك لتوجيههم ولفت أنظارهم أو توبيخهم على أفعالهم. ولأن زوجتي تعاني الأمرّين في المنزل من أجل توجيه الأولاد وتهيئتهم للدراسة، فقد رأيتها منحازة لجانب المعلم قائلة أن المعلم معذور فيما يستخدمه من ألفاظ جارحة ـ كنا نعدها في الماضي جريمة لا تغتفر ـ وذلك بسبب ما يلاقيه من صعوبة في السيطرة على هذه الشتات من العقول الفارغة في جيل مستهتر وضائع ومشتت، ولا شك أنه جيل يختلف كثيرًا عن أجيالنا السابقة.
وحرصًا منها على أن لا تنفخ في الهشيم أضافت ـ وهي تنظر لولدها بغيظ ومهما حدث من تجاوزات من جانب المعلم فاللائمة تعود على الطالب الذي يثير حفيظة أستاذه ويدفعه للتفوه بهذه الألفاظ القبيحة.
ووجدتني مدفوعًا للاختلاف معها، لأنه مهما حدث من تجاوزات من جانب الطالب فليس استخدام تلك الألفاظ البذيئة هي الطريقة المثلى لتقويمه وخصوصًا أن الأستاذ ـ في نظر طلابه ـ قدوة يقتدى بمثله.كما أن الحكمة تقتضي من المعلم أن لا يُستدرج ـ من قبل طلابه ـ لهذا المستنقع الآسن من الألفاظ البذيئة نظرًا لما يتمتع به المعلم من حكمة وخبرة وحنكة وصبر.
ولأدلل على صدق رؤيتي أضرب لذلك مثالين واضحين حدثا ونحن طلاب في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية:المثال الأول:
حين دخل الأستاذ «جذر» مدرس الرياضيات الفصل، وللحق إنه كان عظيمًا لولا عصبيته المفرطة ـ فوجد الطلاب قد كتبوا اسمه على السبورة هكذا: «جاجا» وذلك للسخرية منه والتهكم عليه. فما كان من الأستاذ «جذر» إلا أنه تجاهل هذه الإهانة وقام بمحو اسمه من فوق السبورة بطريقة توحي أنه لم يتنبه لذلك! وكرر الطلاب سخافاتهم، وفي كل مرة يتحامل على نفسه ويمحو ما كتبوه دون أن يعلق وإن كاد يتميز من الغيظ. وأخيرًا لجؤوا إلى حيلة أشد مكرًا فكتبوا كلمة «جاجا» بحيث تستغرق كل مساحة السبورة، وبحيث لا يمكن لعاقل تجاهلها! وهنا أسقط في يده وأحس أنها إهانة لا يمكن تجاوزها واستفزاز صارخ لا يمكن تجاهله.وعندها التفت إلينا والشر يتطاير من عينيه والزبد من فمه، ثم انطلق في توجيه سيل من السباب والألفاظ غاية في السوء والتي لا يتصور إنسان أن مثله يمكن أن ينطقها أو يتفوه بها. ولم يكتف بهذا بل عمد إلى أضخم وأطول زميل لنا ـ وكان على خلق ـ ولطمه على وجهه لطمة قوية على طريقة «اضرب المربوط.. يخاف السايب»!ولم يحاول زميلنا الدفاع عن نفسه أو حتى اتقاء اللطمة برفع يديه في وجه أستاذه احترامًا له. وكانت النتيجة هي اندفاع كل الطلاب ـ لا شعوريًا ـ متجهين نحو المعلم وأشبعوه ضربًا وركلاً في مشهد «دراماتيكي» لا ينسى ثأرًا لزميلهم الذي ضُرب ولم يرتكب ذنبًا.وبعدها لم نر الأستاذ «جذر» في المدرسة بعد ذلك.
المثال الثاني: مدرس اللغة العربية«أبو شنب» وكان من المعلمين الأفذاذ، كان خلوقًا وهادئ الطباع ومتصفًا بكل الصفات الطيبة. كان وقورًا وذا خبرة عالية وحنكة في طريقة التعامل مع طلابه، وكان يحفظ كثيرًا الشعر والادب العربي.ذات يوم استفزه أحد الطلاب السفهاء وتحدث معه بجهل وغباء وبطريقة مستهترة مستفزة، توقعنا أن يكون رد فعل أستاذنا على قدر سفاهة هذا الطالب الغر، أقلها الثورة ومحاولة الفتك بهذا الطالب، ومحاولة إنزال أشد ألوان العقاب به جزاء له على سوء أخلاقه، وخصوصًا أن أستاذنا كان يتمتع باحترام الجميع وله مكانة خاصة عند إدارة المدرسة.ولكن حدث ما لم نتوقع: فقد اتجه الأستاذ «أبو شنب» إلى مكان الطالب وبهدوء وثبات وحزم وجه إليه كلمات موجزة قائلاً له: اسمع يا بني.. أهلك أرسلوك إلى المدرسة لكي تتعلم وتصير إنسانًا نافعًا، فإن أردت ذلك فمرحبًا، وإلا فلا داعي أن تجهد نفسك في الحضور إلى المدرسة، ثم واصل الشرح دون تعقيب.

والأعجب من ذلك أن أستاذنا الكريم الخلوق لم يهمل هذا الطالب النزق أو اضطهده، لا بل قربه منه وتعهده وبث فيه روح المحبة والتآلف والثقة في النفس. وبذلك نجح الأستاذ في إعادة ذلك الشارد إلى بقية المجموعة سالمًا. ولا غرو أن أحب الطالب أستاذه أي حب ونجح في مادة اللغة العربية بتفوق .
إن الأمر يحتاج إلى بعض المرونة والتكيف مع ظروف الواقع مع الرحمة والصبر. فليست المناهج التربوية قوالب جامدة قابلة للتطبيق تحت أي ظرف وفي أي مجتمع. فلم يعد طالب اليوم ـ بظروف الحياة التي نعيشها ـ يشبه طالب الأمس الذي لم يكن همه إلا التعلم والحرص على إرضاء أستاذه واحترامه وإظهار كل معاني الحب والولاء له حتى إنه لا يستطيع أن يقابله في الطريق دون أن يتنحى سالكًا طريقًا آخر احترامًا له.

إن طالب اليوم قد شغل بالكثير والكثير من الملهيات، واغتر بوسائل العلم الحديث من «كمبيوتر» و«إنترنت» حتى اعتقد الكثيرون أنهم لم يصبحوا بحاجة إلى معلم، وأين علم المعلم من تلك المعلومات التي تتراءى أمام أعينهم على شاشات الكمبيوتر بحيث يستطيع الوصول إلى ما يريد من معلومات بمجرد أن ينقر بأصبعه على لوحة المفاتيح. وبالطبع فقد الطالب تلك العلاقة الحميمة مع أستاذه ومعلمه، تلك العلاقة التي لا بد منها والتي كانت دافعًا لنا في الماضي أن نرتقي سلم التعليم بحب وصبر وأناة.

إن جيل اليوم شغل بالكثير من الغزو الوافد الذي يقتحم عليه حياته في كل جوانبها فلايكاد ينفك عنها وهي وإن كانت في بعض جوانبها مفيدة إلا أنها على الجانب الآخر مدمرة ومهلكة.لذلك فعلى الأستاذ ـ كما قلنا ـ أن يتحلى بالصبر والرحمة والمرونة في معاملة هذا الجيل بظروفه الحالية.

وعلى الأسرة كذلك أن تتولى تكملة رسالة المعلم بتنشئة أبنائها على الدين والخلق القويم. ولا بد من العودة إلى المنابع الأصيلة لحضارتنا والعمل على ترسيخها في نفوس أبنائنا منذ الصغر حتى يثق بدينه ويثق في تراثه وحضارته، ولا يحس بالصغار أمام حضارة اليوم الوافدة، وحتى لا يجد الغزو الفكري له مكانًا في عقله أو قلبه.